الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وروي أيضا أنه قال لعمر مرة: إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكًا وصلبًا تخرجان من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رمادًا ثم تأتي ريح فتنسفكما في اليم نسفًا فانظر بالله تعالى عليك من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى، هذا العجب العجاب والداء العضال، ومما يرد قولهم أيضا: إن التقية لا تكون إلا لخوف، والخوف قسمان: الأول: الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين: أحدهما: أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في الكافي، وعقد لها بابًا وأجمع عليها سائر الإمامية، وثانيهما: أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين، القسم الثاني: خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائمًا في امتثال أوامر الله تعالى وربما قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله عليه وسلم. وأيضا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه من أداء الواجب أول وهلة، ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أراده قوله تعالى في حقهم: {الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ الله وكفى بالله حَسِيبًا} [الأحزاب: 39] وقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] إلى غير ذلك من الآيات، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه، وهذا أحد محملين لما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة، والثاني: حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو على التفصيل الذي ذكرناه.ومن الناس من أوجب نوعًا من التقية خاصًا بخواص المؤمنين وهو حفظ الأسرار الإلهية عن الإفشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل وعلى علمائهم ما فهموه، وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر أنفاسهم، وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمي الكثير منهم بالزندقة وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما يترتب على الإفشاء من المفاسد التي تعم الأرض.وحنانيك بعض الشر أهون من بعض... وكتم الأسرار عن أهلها فيه فوات خير عظيم وموجب لعذاب أليم وقد يقال: ليس هذا من باب التقية في شيء إلا أن القوم تكلموا بما طفح على ألسنتهم وظهر على علانيتهم وكانت المعاني المرادة لهم بحيث تضيق عنها العبارة ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة، ومن حذا حذوهم واقتفى في التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقق ما إليه مالوا. اهـ.
وفي مثلها نزل قوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 57] قال ابن عطية: كانت قريش من المستهزئين وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 9] الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] الآية نزلت في قوم كان، بينهم وبين اليهود، جوار وحلف في الجاهلية، فداموا عليه في الإسلام فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحقيق، وكانا يؤذيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.الحالة الثالثة: كذلك، بدون أن يكون طوائف الكفار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] وكذلك كان حال الحبشة فإنهم حموا المؤمنين، وآووهم، قال الفخر: وهذه واسطة، وهي لا توجب الكفر، إلا أنه منهي عنه، إذ قد يجر إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين.الحالة الرابعة: موالاة طائفة من الكفار لأجل الإضرار بطائفة معينة من المسلمين مثل الانتصار بالكفار على جماعة من المسلمين، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة، فقد قال مالك، في الجاسوس يتجسس للكفار على المسلمين: أنه يوكل إلى اجتهاد الإمام، وهو الصواب لأن التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غرورا، ويفعله طمعا، وقد يكون على سبيل الفلتة، وقد يكون له دأبا وعادة، وقال ابن القاسم: ذلك زندقة لا توبة فيه، أي لا يستتاب ويقتل كالزنديق، وهو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفار، إذا اطلع عليه، وقال ابن وهب ردة ويستتاب، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر.وقد استعان المعتمد ابن عباد صاحب أشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللمتونيين، فيقال: إن فقهاء الأندلس أفتوا أمير المسلمين عليا بن يوسف بن تاشفين، بكفر ابن عباد، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنه استتابه.الحالة الخامسة: أن يتخذ المؤمنون طائفة من الكفار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعرضهم النصرة لهم، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها: ففي المدونة قال ابن القاسم: لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله عليه السلام لكافر تبعه يوم خروجه إلى بدر: «ارجع فلن أستعين بمشرك» وروى أبو الفرج، وعبد الملك بن حبيب: أن مالكا قال: لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة، قال ابن عبد البر: وحديث لن أستعين بمشرك مختلف في سنده، وقال جماعة: هو منسوخ، قال عياض: حمله بعض علمائنا على أنه كان في وقت خاص واحتج هؤلاء بغزو صفوان بن أمية مع النبي صلى الله عليه وسلم، في حنين، وفي غزوة الطائف، وهو يومئذ غير مسلم، واحتجوا أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني النضير من اليهود: «إنا وأنتم أهل كتاب وأن لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر فإما قاتلتم معنا وإلا أعرتمونا السلاح» وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، والليث، والأوزاعي، ومن أصحابنا من قال: لا نطلب منهم المعونة، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم: لأن الإذن كالطلب، ولكن إذا خرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد، ونقل ابن رشد عن الطحاوي عن أبي حنيفة: أنه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين، قال ابن رشد: وهذا لا وجه له، وعن أصبغ المنع مطلقا بلا تأويل.الحالة السادسة: أن يتخذ واحد من المسلمين واحدا من الكافرين بعينه وليا له، في حسن المعاشرة أو لقرابة، لكمال فيه أو نحو ذلك، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين، وذلك غير ممنوع، فقد قال تعالى في الأبوين {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] واستأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في بر والدتها وصلتها، وهي كافرة، فقال لها صِلي أمك وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] قيل نزلت في والدة أسماء، وقيل في طوائف من مشركي مكة: وهم كنانة، وخزاعة، ومزينة، وبنو الحرث ابن كعب، كانوا يودون انتصار المسلمين على أهل مكة.وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي، لما يبديه من محبة النبيء، والتردد عليه، وقد نفعهم يوم الطائف إذ صرف بني زهرة، وكانوا ثلاثمائة فارس، عن قتال المسلمين، وخنس بهم كما تقدم في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية.الحالة السابعة: حالة المعاملات الدنيوية: كالتجارات، والعهود، والمصالحات، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه.الحالة الثامنة: حالة إظهار الموالاة لهم لاتقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}.والاستثناء في {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا} منقطع ناشئ عن جملة {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} لأن الاتقاء ليس مما تضمنه اسم الإشارة، لكنه أشبه الولاية في المعاملة. اهـ.
|